فصل: الأصل الخامس: إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)



.الأصل الثالث من ذلك: ينبغي أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم:

لكن تهذّب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك.
نكتة: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى عامله أبي موسى الأشعري: (أما فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته. فإياك والتبسّط فإن عمالك يقتدون بك، وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضرًا فأكلت كثيرًا حتى سمنت فكان سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل). وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوبًا إليه وأخذ به وعوقب عليه.
وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبنًا ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولًا من باطنه؛ وذلك أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه.
ويجب أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من جند الشيطان. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم؟ وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا ينال.
واعلم أيها السلطان وتبيّن أن ظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن ترى الأشياء على ما هي، وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها. مثلًا إذا كنت تجور على الناس لأجل الدنيا فينبغي أن تنظر أي شيء مقصودك من الدنيا، فإن كان مقصودك من الدنيا أكل الطعام الطيب فيجب أن تعلم أن هذه شهوة بهيمة في صورة آدمي، لأن الشهوة إلى الأكل من طباع البهائم، وإن كان مقصودك لبس التاج فإنك امرأة في صورة رجل لأن التزين والرعونة من أعمال النساء، وإن كان مقصودك أن تمضي غضبك على أعدائك فأنت أسد أو سبع في صورة آدمي لأن إحضار الغضب للقلب من طباع السباع، وإن كان مقصودك أن تخدمك الناس فأنت جاهل في صورة عاقل فإنك لو كنت عاقلًا لعلمت أن الذين يخدمونك إنما هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وإن خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا لك وعلامة ذلك أنهم لو سمعوا إرجافًا بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك أعرضوا بأجمعهم عنك وفي أي موضع علموا الدرهم خدموا وسجدوا لذلك الموضع، فعلى الحقيقة ليست هذه خدمة وإنما هي ضحكة.
والعاقل من نظر أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها، وحقيقة هذه الأعمال ما ذكره وأوضحناه، فكل من لم يتيقن ذلك فليس بعاقل ومن لم يكن عاقلًا لم يكن عادلًا ومن لم يكن عادلًا مأواه جهنم، فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل.

.الأصل الرابع: إن الوالي في الأغلب يكون متكبرًا:

ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الغضب في ربع المهلكات. وإذا كان الغضب غالبًا فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب.
حكاية: يقال أن أبا جعفر المنصور أمر بقتل رجل، والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبرًا قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الخلائق في صعيد واحد، نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا عن الناس، فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه». وأكثر ما يكون غضب الولاة على من ذكرهم وطوّل لسانه عليهم فيسعون في سفك دمه.
قال عيسى عليه السلام ليحيى بن زكريا عليهما السلام: إذا ذكرك أحد بشيء وقال فيك صحيحًا فاشكر الله، وإن قال فيك كذبًا فازدد من ذكر الشكر، فإنه يزيد في ديوان أعمالك وأنت مستريح، يعني أن حسناته تكتب لك في ديوانك.
وذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقيل إن فلانًا رجل قوي شجاع فقال: كيف ذاك؟ فقالوا: يقوى بكل أحد وما صارع أحدًا إلا صرعه فقال عليه الصلاة السلام: «القوي الشجاع من قهر نفسه لا من صرع غيره».
وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من كانت فيه فقد كمل إيمانه من كظم غيظه وأنصف في حال رضاه وغضبه وعفا عند المقدرة». وقال عمر ابن الخطاب: لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب.
حكاية: قيل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقًا مملوءًا من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله؟ قال: خذه فإنه بلغني عنك أنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا.
حكاية أخرى: خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أن زين العابدين استدعى غلامًا له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي؟ فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ؟ قال: أمنت وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي. ويروى عنه أنه كان له غلام فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا؟ قال: فعلته غمدًا لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس أذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. ويروى أن رجلًا سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد يبلغ الرجل بحلمه وعفوه درجة الصائم القائم، ويكون رجل يكتب في جريدة الجائرين ولا ولاية له ولا حكم إلا على أهل منزله». ويروى أن إبليس رأى موسى عليه السلام فقال: يا موسى أعلمك ثلاثة أشياء وتطلب لي من الله حاجة واحدة، فقال: وما الثلاثة أشياء؟ فقال يا موسى أحذر من الغضب والحرد، فإن الحَردان يكون خفيف الرأس وأنا ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، وأحذر من البخل فإني أفسد على البخيل دنياه ودينه، وأحذر من النساء فإني ما نصبت للخلق شركًا اعتمد عليه مثل النساء.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من كظم غيظه وهو قادر على أن لا يكظمه ملأ الله قلبه بالإيمان، ومن لم يلبس ثوبًا طويلًا خوفًا من التكبر والخيلاء ألبسه الله تعالى حلل الكرامة». وقال عليه الصلاة والسلام: «ويل لمن يغضب وينسى غضب الله».
«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملًا ادخل به الجنة، فقال: لا تغضب. قال: ثم ماذا؟ قال: استغفر الله قبل صلاة العصر سبعين مرة لتكفر عنك ذنوب سبعين سنة، فقال: ما لي ذنوب سبعين سنة، فقال: لأمك، قال: وما لأمي ذنوب سبعين سنة، قال: لأبيك، قال: وما لأبي ذنوب سبعين سنة قال: لأخوتك؟ قال: نعم».
وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم يومًا مالًا فقال له رجل: ما هذه القسمة؟ يعني أنها ليست بإنصاف، فحكيت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئًا سوى أن قال: «رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى.
فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتًا اثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان. عامل يتناول من أموال المسلمين في كل سنة كذا وكذا ألف درهم ويبقى في ذمته، ويطالب بها في القيامة ويحصل بمنفوعها ويبؤ بالعقوبة والعذاب يوم المرجع والمآب كيف تؤثر عنده هذه الأسباب؟ وهذا نهاية الغفلة، وقلة الدين وضعف النحلة.

.الأصل الخامس: إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية:

وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا يوم بدر في ظل فهبط الأمين جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أتقعد في الظل وأصحابك في الشمس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين»
. وقال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم».
مس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين». وقال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم».

.الأصل السادس: أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك:

وأحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات.
نكتة: كان يومًا عمر بن عبد العزيز يقضي حوائج الناس فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك منتظر حاجة وأنت مقصر في حقه؟ فقال: صدقت. ونهض فعاد إلى مجلسه.